خطورة_الري_وقت_الظهيرة

_اثناء_الموجات_الحارة
خسارة مائية وضرر نباتي
دليل علمي وتحذير زراعي
تشهد مصر، خصوصًا خلال شهري “أبيب” و”مسري”، ارتفاعًا غير مسبوق في درجات الحرارة، مدفوعًا بظواهر مناخية إقليمية مثل ظاهرة النينو والاحترار المتوسطي. في هذا السياق، تكثر التساؤلات حول جدوى وجدولة الري في فترات الذروة الحرارية، وهو ما يحتم الرجوع للأدلة العلمية والتوصيات الدولية والوطنية بعيد عن الآراء الشخصية المبنية على الخواطر الليلية.
أولًا: لماذا يُعد الري وقت الظهيرة في الموجات الحارة ممارسة خطرة وغير فعالة؟
1- فقدان المياه بسبب التبخر السطحي (Evaporation Loss):
خلال وقت الظهيرة، تزداد درجات حرارة سطح التربة والنبات لأكثر من 50°م، مما يؤدي إلى تبخر فوري للمياه المُضافة، قبل أن تتسرب لجذور النبات.
دراسات منظمة الأغذية والزراعة (FAO) تشير إلى أن فقد المياه بالتبخر أثناء الذروة الشمسية قد يصل إلى 45-60% من إجمالي كمية المياه المُستخدمة.
(FAO Irrigation and Drainage Paper No. 56 – Allen et al., 1998)
2- إجهاد حراري للنبات وصدمة فسيولوجية (Heat Stress & Shock):
عند سكب مياه أبرد نسبيًا على جذور وأوراق نبات ساخن في وقت الذروة، يتعرض النبات لاضطراب فسيولوجي شديد يؤثر على امتصاص الماء والعناصر الغذائية.
حسب Taiz & Zeiger (Plant Physiology, 2010)، فإن الإجهاد الحراري يُعيق عملية البناء الضوئي ويخفض نشاط الإنزيمات المسؤولة عن الامتصاص.
3- زيادة فرص الإصابة بالأمراض الفطرية (Phytopathological Risk):
ارتفاع حرارة التربة مع وجود رطوبة سطحية عالية بعد الري وقت الظهيرة يُهيئ ظروفًا مثالية لتكاثر الفطريات المسببة لتعفن الجذور والتبقعات مثل Fusarium وRhizoctonia.
(Agrios, G. N., 2005. Plant Pathology, 5th ed.)
(FAO Plant Protection Profiles, 2022)
4- هدر الطاقة وكفاءة الري (Irrigation Efficiency):
الري وقت الذروة يستهلك طاقة أعلى بسبب مقاومة أعلى لضغط المياه وسخونة خطوط النقل، دون تحقيق نفع إنتاجي مقابل.
ثانيًا: متى يجب أن يتم الري؟ وما البدائل الذكية؟ التوقيت الأمثل للري:
** بين 4 صباحًا إلى 9 صباحًا
** أو بعد 6مساءً حتى منتصف الليل
بحسب توصيات وممارسات المعهد الدولي لبحوث المياه التابع للأمم المتحدة IWRM الحديثة
** الري بالتنقيط أو الرذاذ منخفض الضغط.
** استخدام حساسات رطوبة التربة لضبط التوقيت.
** التسميد مع الري في الصباح الباكر لتحسين كفاءة الامتصاص.
دلائل علمية دقيقة لتجارب منفذة فعليًا في مصر حول تأثير توقيت الري، لا سيما أثناء الموجات الحارة،
1- في دراسة أجراها معهد بحوث الأراضي والمياه – مصر عام 2021، لوحظ أن:
“الري في الساعات المبكرة من اليوم أدى إلى زيادة إنتاجية الطماطم بنسبة 18% مقارنة بالري وقت الظهيرة، مع تقليل استخدام المياه بنسبة 27%.”
2. تجربة على محصول الطماطم – محطة بحوث الجيزة، 2021
** الموضوع: تأثير توقيت الري على إنتاجية وجودة محصول الطماطم الصيفية.
** ظروف التجربة:
أجريت التجربة على صنف هجين (Super Strain B) في 3 توقيتات للري:
1. صباحًا (7–9 ص)
2. منتصف النهار (12–2 ظ)
3. مساءً (5–7 م)
في ظل موجات حر متتالية خلال يوليو وأغسطس (درجة الحرارة وقت الظهيرة تجاوزت 42°م).
الري صباحًا أدى إلى:
زيادة الإنتاجية بنسبة 17.3%
تحسن واضح في نسبة العقد ونمو الثمار.
الري ظهرًا أدى إلى:
ذبول في الأوراق بعد ساعات.
تساقط عقد بنسبة 25%.
زيادة نسب الإصابة بلفحة الأوراق.
الري مساءً جاء في المرتبة الثانية من حيث الكفاءة.
الجهة المنفذة: معهد بحوث البساتين – قسم الخضر.
3. تجربة على القمح – محطة سخا بكفر الشيخ، موسم 2023/2022
الموضوع: تقييم أداء محصول القمح تحت تأثير الري في أوقات مختلفة خلال شهور الذروة المناخية.
ظروف التجربة:
oتم اختبار صنف “جيزة 171” على ثلاث معاملات:
ري فجري (5:00 ص)
ري ظهري (1:00 م)
ري مسائي (6:00 م)
الري الصباحب أدى إلى:
زيادة المحصول بنسبة 11.5%
ارتفاع في عدد السنابل وعدد الحبوب/سنبلة.
الري الظهري:
تسبب في ظهور أعراض الإجهاد الحراري.
نقص المحصول بنسبة 14% مقارنةً بالمعاملة الأولى.
الجهة المنفذة: معهد بحوث المحاصيل الحقلية – قسم القمح.
4. تجربة على الذرة الشامية – غرب المنيا، 2023
الموضوع: تأثير الري أثناء الموجات الحارة على إخصاب وعقد الذرة.
ظروف التجربة:
تم استخدام صنف “سينجل 10” في أرض جديدة، تحت ظروف موجة حارة وصلت الحرارة خلالها إلى 44°م.
تم تقسيم الحقول إلى مجموعتين:
مجموعة رُويت في الظهيرة.
مجموعة رُويت صباحًا فقط.
الري في الظهيرة أدى إلى:
انخفاض معدل الإخصاب بنسبة 40%
غياب الحبوب داخل الكوز.
الري صباحًا حافظ على الإنتاج بنسبة مقبولة ولم يُسجل أي خلل تشريحي في الأزهار المذكرة أو المؤنثة.
الجهة المنفذة: مركز بحوث الصحراء بالتعاون مع مركز البحوث الزراعية.
5. تجربة على الزيتون – مشروع حقلي بمحافظة مطروح، 2022
الموضوع: تقييم تأثير الري في توقيتات مختلفة خلال الصيف على نسبة الزيت وجودة الثمار.
الري خلال الفجر أو بعد الغروب أدى إلى:
زيادة نسبة الزيت بـ 8-10% مقارنةً بالري ظهراً.
تقليل الإجهاد المائي وتحسين العقد الثمري.
التوصيات: ري الزيتون في الصيف يجب أن يكون في الليل أو أول الفجر فقط لضمان استخلاص زيتي أعلى وحماية الشجرة من الصدمات الحرارية في الاجزاء الاكثر حساسية.
#استثناءات_مهمة في قاعدة “عدم الري وقت الظهيرة” أثناء الموجات الحارة:
رغم أن القاعدة العامة التي يؤكدها العلم والتجربة هي تجنب الري وقت الذروة الحرارية (من 11 ص حتى 4 م) بسبب التأثيرات السلبية على النبات، إلا أن هناك استثناءات خاصة ينبغي التنويه لها بدقة:
مشاتل الفراولة – الرش للترطيب وليس الري:
في حالة مشاتل الفراولة التي تُنشأ خلال شهري يوليو وأغسطس، وهي أشد شهور السنة حرارة، يُستخدم الرش الخفيف المنتظم أثناء الظهيرة ليس بغرض الري أو تغذية النبات، وإنما كوسيلة تبريد لتقليل الإجهاد الحراري على البادرات الصغيرة، التي تكون شديدة الحساسية لفقد الرطوبة.
هذه التقنية تحمي الأوراق الغضة من التلف الناتج عن البخر النتحي المفرط تحت أشعة الشمس المباشرة.
الرش لا يكون غزيرًا بل ناعمًا وخفيفًا وعلى فترات متباعدة، دون إغراق التربة.
الري باستخدام أنظمة الطاقة الشمسية – الاعتبارات الخاصة:
نظراً لأن أعلى كفاءة لإنتاج الكهرباء من الألواح الشمسية تحدث وقت الظهيرة، فإن كثيرًا من المزارعين يضطرون لضخ المياه من الآبار خلال فترة الظهيرة.
في هذه الحالة، يمكن تنفيذ الري الاضطراري في الظهيرة، لكن بشروط فنية صارمة لضمان السلامة النباتية والفعالية:
الشروط المصاحبة:
إضافة “حمض الفولفيك” (Fulvic Acid): يعمل كمنشط جذري طبيعي ويساعد على تعزيز امتصاص المغذيات وتقليل الضغط الأسموزي في منطقة الجذر.
إضافة “نترات الماغنسيوم”: تُساعد على:
رفع كفاءة التمثيل الضوئي.
تقوية الجدر الخلوية.
تقليل الأثر السلبي لفقد الرطوبة من الأوراق.
الري يكون بتدفق منخفض (Low discharge) لتفادي تشبع الجذور بالماء الساخن.
الأولوية لري أشجار أو محاصيل معمرة ذات جذور عميقة، وليس محاصيل حساسة أو سطحية الجذور.
“الري وقت الظهيرة ممنوع إلا للضرورة… وإذا كانت الضرورة تفرضه (كما في أنظمة الطاقة الشمسية)، فالعلم يُوجب تعويض النبات بفولفيك ونترات الماغنسيوم، واتباع نظام ري محسوب بدقة، مع اعتبار التبريد الوقائي للشتلات الحساسة كالفرولة.”
كل التجارب تؤكد نفس الاستنتاج العلمي:
الري في وقت الذروة الحرارية = هدر مياه + ضرر فسيولوجي + نقص إنتاجية.
فيما يحقق الري في الساعات الباردة (الفجر أو ما بعد الغروب) أعلى كفاءة ري وأعلى إنتاجية وجودة، بأقل فقد ممكن في الماء والطاقة.
الري في وقت الذروة الحرارية، خاصة أثناء موجات الحر، لا يؤدي فقط إلى هدر الموارد المائية، بل يُشكل خطرًا فسيولوجيًا على النبات ويزيد من مخاطر الأمراض. وهو ما يستدعي إدراجه ضمن قائمة الممارسات الزراعية غير الصحيحة وغير المستدامة.
في زمن الأزمات والتقلبات المناخية القاسية، تصبح المعلومة العلمية مسؤولية وطنية، والكلمة غير المدروسة جريمة في حق الوطن والمزارع والبيئة. للأسف، يخرج علينا البعض ممن يتصدرون المشهد لمجرد الظهور أو تصدر الترند، يُصدرون نصائح زائفة لا تستند إلى أي أساس علمي أو بحثي، بل تضلل الناس وتُعرض أرزاقهم ومجهودهم للهلاك.
إن الزراعة لا تُدار بالمزاج أو الظنون، بل بالعلم والبيانات والنماذج الدقيقة… فالتوصية التي تُقال بلا دراسة قد تعني خسارة موسم، أو إصابة حقل، أو تلف محصول بأكمله. والمناخ لا يرحم من يستهين بقوانينه.
نُهيب بكل مزارع، وكل مسؤول، وكل إعلامي، ألا يأخذ المعلومة إلا من مصادر موثوقة قائمة على بحث وتحليل وتجربة. فالعلم ليس رفاهية، بل هو سلاحنا الوحيد أمام عدو شرس اسمه “التغير المناخي”.
توصية من ذهب للمزارعين والمهندسين:
“اجعل قرارك الزراعي مبنيًّا على علم.. لا تروي نباتك عندما تحتاجه ليبرد ، بل حين يحتاج هو ليعيش.”
“اتبع من ينصحك بعلم، لا من يُسلّيك بكلام… فمستقبل الزراعة لا يحتمل العبث، ولا يسامح الجهل المتعمد.”
*************ءء
أستاذ دكتور محمد علي فهيم
رئيس مركز معلومات تغير المناخ
مركز البحوث الزراعية